لماذا نحب صالح علماني !

صورة

حين نرى اسم صالح علماني على أحد أغلفة الروايات اللاتينية المترجمة نمد يدينا ونحن ممتلئين بالثقة بأن هذا المترجم الأديب سينقلنا إلى عوالم مدهشة عوالم الواقعية السحرية بأجمل صورها وخيالاتها ومن ينابيعها الأصلية وبكل المتعة الخالصة نعبها عبّا حتى نمتلىء .. بل إننا  أصبحنا لا ننظر إلى اسم المؤلف و يكفينا أن نتأكد أن علماني هو المترجم .. هذه الثقة التي اكتسبها علماني من القراء لم تأتي من فراغ ولكنها جاءت بعد سنين طويلة من خبرات وتراكمات حفرت اسمه كمترجم في أذهان عشاق الأدب اللاتيني وبدرجة عالية  من الإلتزام تجاه الباحثين عن أكثر من ترجمة من الأسبانية مباشرة إلى اللغة العربية ، الترجمة الإبداعية .

بعد كمية الشهرة والنجاح التي حصدها علماني كمترجم في الوقت الذي لم يحصل على ربعها ككاتب  لم يعد ممكنا أن تأتي كلمة مترجم مرافقة لاسمه إلا وكانت رديفة لها  كلمة البارع أو الموهوب  أو العبقري ، واعترف إنني ممن يشكر الله على تخلي علماني عن فكرة التأليف  ولا يمكن ألا نستشعر سعادة القراء  بتصريح المترجم الفذ علماني في لفتة  بالغة الذكاء تفضيله أن يكون  مترجما بارعا على أن يكون كاتبا فاشلا ، ولا شك إنه أصبح يعلم  أن بقراره هذا أسعد الآلاف من عشاق القراءة فهو من كشف لهم عن كنوزٍ من الأعمال الأدبية الهامة والمؤثرة والتي لم تكن معروفة للأسف للقارىء العربي !

عندما ارتحل علماني إلى أسبانيا بعد سوء الأوضاع في سوريا وتم تكريمه في طليلة مؤخرا ذكر مقولة يوسا : أن علماني هو نافذتنا إلى الشرق .. ونحن كقراء عرب لا نعتبر علماني نافذة فقط بل إنه مالك المفاتيح التي فتحت الأبواب ،  فالأسبانية ليست لغة دولة واحدة بل هناك أكثر من عشرين دولة تتحدث بها ،  لقد كان علماني بالنسبة للقارىء العربي رافدا رئيسيا ومهما للوصول إلى أدب اللاتين وعلماني (الذويق) لم يكتفي بذلك بل إنه تفضل بترجمة بعض أعمال الروائي البرتغالي العظيم ساراماغو والتي قامت بترجمتها زوجة ساراماغو إلى الأسبانية ، وفي معرض ذلك يقول علماني أن ترجمته هي الأقرب إلى الأصل ، فلم يكن ليجد أفضل من زوجة ساراماغو مترجمة لأعماله ومع سوء نوعية الطباعة وسوء الورق وعرض الصفحة العجيب لسلسلة الجوائز التي صدرت منها تلك الروايات إلا إن القراء لم يبالوا فقد كان يكفيهم أن يكون علماني هو المترجم !

 والآن لماذا نحب علماني ولماذا الركض واللهاث خلف ترجماته ! ببساطة شديدة علماني يفهم القارىء العربي ويدرك ما هي نوعية الروايات التي ستثير إهتمامه وهو يقوم بمهمة المترجم كوسيط لغوي وثقافي  بين شعبين مختلفين كما يقوم بدور بالغ الأهمية  في نقل المعرفة ويهتم بتفاصيل قد لا تخطر على ذهن مترجم آخر فمثلا حتى يتيح علماني لقارئه أكبر قدر من الراحة والرؤية الواضحة وهو يقرأ عزلة الروائي الكولمبي ماركيز زوده بخارطة لتكون دليلا له لمتابعة حيوات وتسلسل الأجيال الثمانية الذين عبروا خلال زمن الرواية  ..لقد فتح لهم الأبواب وأشار إلى السلالم وماكان على القارىء إلا أن يرقى الدرج !

 حين تمد يدك لكتاب ترجمه علماني لا تحتاج لأن تسأل هل هي ترجمة جيدة ! إنك تضمن الجودة فأمامك مترجم واسع الإطلاع يفهم ويدرك ماذا خلق هذا العمل الأدبي وماذا خلق ذاك ، لا يكتفي بالكلمات فكل من قرأ مسرحيات لوركا بترجمته  يستشعر صوت الموسيقى الإيقاع الأحاسيس اللحن وكأنه نقر على سطح مصقول ،  وهكذا الأمر عندما تعلّق بالشعر تحوّل المترجم لشاعرٍ يزن الكلمات .. وحين ترجم روايات تقمص روح الأديب وأخذ  يبحث ما خلف الكلمات مابينها فكان  الأقدر على الفهم والإستيعاب للإستعارات والكنايات للأدوات البلاغية دون أن يضيع المعنى المقصود في العبارة !!

والمتتبع  لترجمات علماني يدرك أيضا الحصيلة اللغوية والثقافية التي يمتلكها وسعة إطلاع المترجم لبيئة المؤلف الذي يترجم له و القيم والمعتقدات التي يؤمن بها،  تاريخهُ في الكتابة ، فالترجمة الأدبية بالغة التعقيد ولايمكن لمترجم لنص أدبي أن يترجم حرفيا ويجد قبولا من القراء  ! .. يقول علماني : (يرتكب بعضهم آثاماً لا تغتفر باسم الترجمة الحرفية، إذ لا يتعلق الأمر بوضع كلمة بدل أخرى، بل بتشكيل جغرافية النص جمالياً ومعرفة أسرار اللغتين، اللغة الأم واللغة المترجم عنها) ..  الأعمال الأدبية في بنيتها الداخلية تتخللها عناصر عديدة مثل اللغة ، طبيعة المجتمع ، وأسلوب المؤلف والموقف السياسي والفلسفي له بل يتعدى الأمر لبلد المؤلف زعمائه تاريخه وسياساته خاصة  فيم لو رغب بترجمة عمل سياسي تاريخي أو توثيقي كأعمال يوسا مثلا فلابد أن يملك معرفة واسعة بالمصطلحات السياسية و ما تقتضيه الأحداث السياسية والتاريخية من معلومات وهذا مالم يكن ينقص علماني الذي كان شديد الحرص على الخروج بترجمة واعية ناضجة تمد جسرا بين الشعوب والثقافات في الجوانب الأكثر تفردا لتجوب بنا بقاعا عديدة في هذا الجزء المهم والساحر  من الكرة الأرضية ..

كُتب هذا المقال تقديرا , امتنانا وعرفانا لفضل هذا الإنسان الكبير ..

بول بولز تحت السماء الواقية كان هناك روائي عظيم ..

صورة

لم أقرأ رواية تزخر بأجواء الشرق بجمال هذه الرواية ، كما يقول الناشر تبدو كلوحات الفنانين المستشرقين و يمكن لأي رسام مهتم ، أن يقرأ الرواية وهي بلا شك ستلهمه الكثير .
الروائي الأمريكي بول بولز قضى معظم حياته في بلاد المغرب حيث انتقل إليها في العام 1947 ومن الطبيعي أن يتأثر بأجوائها في كتاباته , حالما بدأتُ في القراءة تذكرُت أني قبل فترة قصيرة أنني قرأت رواية أبنوس للروائي الفرنسي ألبرتو بانكث – فيكيروا والتي تقوم على فكرة إدانة الرّق وتدور أحداثها في صحراء أفريقيا ووجدتني أقارن بين أسلوب بول بولز وبين فيكيروا وبلاشك أن المقارنة لن تأتي في صالح الأخير ، أن بول بولز يتفوق وبجدارة في تقنيات السرد وفي أسلوبه الأدبي اللامع والخلاب ، إن الزخم الإبداعي الذي وجدته في هذه الرواية فاق تصوري ناهيك عن الأحاسيس الإنسانية المترفة والتي تدفقت بين سطورها .
* استيقظ ..فتح عينيه كانت الغرفة تعني له القليل جدا , فقد كان مستغرقا بعمق شديد في العدم الذي جاء منه للتو وإذا كان لا يمتلك القدرة على التحقق من موقعه في الزمان والمكان فهو يفتقد الرغبة في ذلك , كان في مكان ما !
لقد اجتاز مناطق شاسعة عائدا من اللامكان وثمة يقين بحزن لا حدود له في صميم وعيه لكن الحزن بدا مطَمئنا لأنه وحده كان مألوفا !*

يبدأ بولز بحلم لبورت وهو  الشخصية الرئيسية في الرواية وبورت لا يتذكر تفاصيله جيدا ولكنها كانت إشارة التقطها من الحلم وكانت إلى رحلته إلى المغرب : 
* كان الوقت نهارا وكنتُ على متن قطار في حالة تسارع مستمر 
قلت في نفسي إننا ذاهبون لنحرث في سرير كبير والشراشف كلها في الجبال 
ومن ثمّ وبدون أي سبب تطلعّت خارج النافذة .. إلى الأشجار
وسمعتُ نفسي أقول ك نعم لأنني كنت راغبا بالمرور بالشيء كله مرة أخرى
لمجرد شمّ الربيع بالطريقة التي اعتدت عليها عندما كنتُ طفلا 
ولكنني تأكدت أن الوقت متأخر أكثر مما ينبغي لأنني بينما كنت أفكر 
( لا ) مددت يدي وانتزعتُ أسناني في يدي كما لو أنها مصنوعة من الملاط 
كان القطار قد توقف وثبتُّ ُ أسناني في يدي وبدأتُ النحيب ! *

بو ل بولز

استوقفني الحلم أولا لأن بول بولز فعليا ذهب إلى المغرب بسببه  وثانيا لأن الحلم تحدث عن سقوط أسنان مما دفعني للتساؤل هل لذلك دلالة ما في مجريات القصة كنتُ أعلم أن سقوط الأسنان في الأحلام يفسر باغتراب أو فقد وغياب لكني ما لا أعرفه هل بول بولز كان يشير إلى ذلك من خلال هذا الحلم وما يحويه من رغبات و تداعيات أدت إلى هذا الشكل من الهذيان الذي تحوّل لفاجعة لاحقا ! 

مجريات الأحداث في الرواية تؤكد ذلك ، خاصة أن الحلم يشير إلى أن بيرت قام بخلع أسنانه بنفسه في الحلم مما جعلني أتيقن أن بول بولز الذي عاش عمرا في الشرق لا شك كان لديه خلفية بمثل هذه التفسيرات ورموزها لاسيما أنه ذيّل الحلم بعبارة وجهها إلى زوجته :
( أنتِ تعرفين بلا شك تلك الأحلام الرهيبة التي تهزّك هزا مثل الزلزال ! )* 

ما لذي يجذب أمريكي ليقضي حياته في المغرب هل هو العشق لحياة المغامرة أم إنه سحر الصحراء !
أو لعلها الرغبة في العودة إلى الحياة البدائية .. أم أنه الملل من العصر الآلي الذي خلّف حروبا وآلاما لا يمكن نسيانها لقد كان بيرت يكرّر أنه ليس سائحا ..فالسائح سرعان ماتراوده الرغبة في العودة إلى بلاده والحنين إلى حضارتها بينما هو رحالة ! والرّحال يقارن حضارته بالحضارات الأخرى ويرفض العناصر التي لا تروق له وهو لا ينتمي إلى مكان أكثر من انتمائه إلى المكان الذي يليه ! كانت مرافقته زوجته كيت وصديقه تنر , وحيث أن العلاقة بين الزوجين كان غريبة نوعا إلا أن كيت كانت مستعدة لأن تتبع بيرت إلى نهاية العالم ، هناك مشاهد كثيرة في الرواية تستطيع أن تستشف من خلالها آراء الغربي عن الشرق ، لم تكن تختلف عن غيرها تلك النظرة المترفعة التي ينظر بها الأجنبي لكل ماهو شرقي ويبدو ذلك واضحا في الكثير من الجمل والعبارات أحدها كان على لسان السيدة لايل: *العرب ! أنهم يتلصصون عليك .. لاشغل لهم سوى التجسس على الآخرين كيف تظنهم يعيشون بغير ذلك *

ولم سنعتقد أنه ممكن أن تختلف النظرة عن تلك النظرة التي نشاهدها في الأفلام الأمريكية فالرجل العربي لا يكتفي بامرأة واحدة بل أن رغباته الجنسية هي التي تسيره وكانت شخصية بلقاسم ومن قبله محمد أكبر دليل على ذلك ولا يختلف الأمر مع النساء العربيات فإصبع لطلاء الشفاه يمكن أن يغيب عقلها !وعلى الرغم من كل ذلك هناك مغناطيس يشدّهم إلى الشرق يركضون خلفه يحتضنون رمالها وغبارها ويذوبون في حرّها وذبابها ! ولو تحدثت عن المشاهد الجميلة في هذه الرواية  فسأذكر أكثر المشاهد التي أسرتني  والتي لا يمكن أن أنساها أبدا مشهد في تلك الرحلة التي توجهت فيها كيت مع تنر على متن قطار إلى مدينة بوسيف بعد أن عبّت الكحول في جوفها ثم خرجت من مقطورتها رافضة رفقته

( أخشى حيث سأذهب أنك ستكون مجرد عثرة في طريقي !)* 

هناك حيث الدرجة الرابعة المكتظة حتى الانفجار برجال ذوي عباءات قاتمة اللون مقرفصين نائمين متكئين واقفين يدورون عبر خليط مشوش من الطرود التي لا شكل لها .. ولأول مرة شعرت أنها في بلاد غريبة ! كان شخص يدفعها إلى الأمام وهي تترنح فوق الأشياء المنبطحة الضغط يتزايد من الخلف والقطار يتأرجح في حركته *.. إلى آخره .. أسرني الوصف والحالة التي كانت بها كيت ولم استغرب كل التحولات التي حدثت لهذه الشخصية بكل حساسيتها وضعفها واستسلامها وجنونها كما تألمت لمشهد سقوط بيرت نتيجة الحمى والحالات التي مرّ بها وفي هذا المشهد العظيم بكل تجلياته البصرية والنفسية .. مابين صعود وهبوط تفوح منه رائحة الموت والانفصال والتوحد ومزيج من الهذيان وحالة الغفران.. كان هناك حوارات حميمية داخلية ثم أخيرا غياب أجمل شخصية في الرواية و التي كانت أكثر الشخصيات حضورا وتأثيرا وحيوية ، وعلى الرغم من كل ذلك داخلني فرح كبير .. لأني أحب هذا الإحساس الذي  يخلفه الشعور بأنك كنت تقرأ لروائي عظيم  ..